سورة سبأ - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)} [سبأ: 34/ 1- 5].
الشكر والحمد المطلق التام لله مالك السماوات والأرض وما فيهما، والمتصرف بشؤونهما، له الحمد في الآخرة كالدنيا، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة بنعمه الكثيرة، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، يدبّر شؤون خلقه أحكم تدبير، وهو خبير ببواطن الأمور وظواهرها.
والألف واللام في كلمة {الْحَمْدُ} لاستغراق الجنس، أي الحمد بأنواعه المختلفة هو لله تعالى من جميع جهات الفكر.
والصفات التي تستوجب المحامد هي في الآية: ملكه جميع ما في السماوات وما في الأرض، وعلمه المحيط بكل شيء، وخبرته وحكمته بالأشياء، لخلقه إياها، ورحمته بأنواع خلقه، وغفرانه لأهل الإيمان.
ولله أيضا كل الحمد في الآخرة، فاللام والألف للجنس أيضا، وهو خبر يفيد أن لله وحده الحمد في الآخرة، لإنعامه وأفضاله ورحمته، وظهور قدرته، وغير ذلك من صفاته.
والله يعلم كل ما يدخل في الأرض، كالغيث والكنوز والدفائن والأموات، ويعلم ما يخرج من الأرض، كالحيوان والنبات والماء والمعادن. ويعلم ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب والأرزاق، والأمطار، والصواعق، وما يعرج فيها كالملائكة أيضا، وأعمال العباد والغازات والأدخنة ووسائل النقل الجوي، والطيور، والله هو الرحيم بعباده، فلا يعاجل عصيانهم بالعقوبة، الغفور لذنوب التائبين إليه، المتوكلين عليه.
ولكن أنكر الكفار قيام القيامة، فقالوا استعجالا منهم واستهزاء بالوعيد: لن تقوم الساعة، ولا حساب، ولا حشر، ولا جنة، ولا نار، فرد الله: قل أيها النبي لهم: بلى والله لتأتينكم بلا شك أو ريب. وهذا في غاية التأكيد، بسبب القسم بالله، وتأكيد الفعل باللام، وبنون التوكيد الثقيلة.
واللّه القادر على البعث: عالم بالغيبيات، لا يغيب عنه شيء من الموجودات، ولو كان أصغر شيء كالذرة، يعلم الأصغر والأكبر، وكل ذلك ثابت علمه، ومدوّن في كتاب واضح، وهو اللوح المحفوظ، وبما أن العلم بالمغيبات ثابت لله تعالى، فاقتضى إمكان البعث.
وقيام الساعة ضروري للحساب وإحقاق الحق والعدل بين الناس، من أجل إثابة المؤمنين الذي يعملون العمل الصالح: وهو الفرائض وكل ما أمروا به، واجتناب كل ما نهوا عنه، وأولئك لا غيرهم لهم المغفرة، أي محو الذنوب، والرزق الكريم: وهو الجنة. وهذا هو الفريق الأول. وهو ضروري أيضا من أجل عقاب الكفار المعاندين الذين حاولوا إبطال آيات القرآن، وأدلة البعث، ظانين أنهم يفلتون من العقاب، وأولئك لا غيرهم لهم عذاب مؤلم شديد في نار جهنم، وهو أسوأ العذاب وأشده.
إن تصور عالم الآخرة الرهيب الذي لابد من وقوعه بعلم اللّه تعالى وقدرته وحكمته، والنظر في مصائر الخلائق، وفصل الحساب بينهم وتصنيفهم إلى أهل الجنة وأهل النار، كل هذا مدعاة للتأمل في هذا المصير المحتوم والإعداد له بحسن الأعمال، وتجنب سوء الأفعال.
موقف المؤمنين والكافرين من البعث والنبوة:
تفاوتت مواقف المؤمنين والكافرين من النبوة والبعث تفاوتا كبيرا، واختلفوا اختلافا صارخا، فأهل الإيمان والعلم يرون الوحي المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم حقا، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم، وأن البعث حق، وأهل الكفر والجهل يرون الوحي كذبا، والبعث مستبعدا غير قائم، وأن إعادة الأجساد أحياء ضرب من البعث، وتعاموا عن قدرة اللّه الخارقة، وأنه قادر على خسف الأرض بهم، أو إسقاط شهب نارية من السماء تحرقهم، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:


{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)} [سبأ: 34/ 6- 9].
الإيمان: يقين وتصديق واطمئنان في النفس، وأهل الإيمان والعلم يرون رؤية متيقنة أن الوحي الذي أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلم حق مؤكد ثابت، وأنه يهدي (أي يرشد) إلى الطريق الأقوم، والحياة السعيدة، ويدركون أن القرآن يرشد المتبعين له إلى طريق اللّه ذي العزة والقوة والجبروت، وأنه القاهر لكل شيء، والمحمود في جميع أقواله وأفعاله وشرائعه وأقداره. والطريق المستقيم: هو الطريق المعتدل، وأراد طريق الشرع والدين القويم.
والكفر: زيغ، وضلال، وانحراف وخطأ محض، ويقول الكافرون على سبيل الهزء والسخرية والتعجب: هل ندلكم على شخص يسمى محمدا يخبركم بخبر غريب، وهو أنكم إذا بليتم وصرتم ترابا، وتمزقت أجسادكم قطعا متفرقة، تعودون بعدئذ أحياء كما كنتم مرة أخرى؟! إن حال هذا الرجل لا يخلو أن يكون إما كذابا يدّعي الوحي من ربه، وإما أنه مجنون لا يعقل ما يقول، ويتوهم البعث. وهذا قول الكافرين، الذين قالوا: {أَفْتَرى} وهو من قول بعضهم لبعض. والمعنى: أافترى، دخلت ألف الاستفهام على ألف الوصل، ثم حذف ألف الوصل، وبقيت مفتوحة غير ممدودة، فكأن بعضهم استفهم بعضا عن محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
ثم أضرب القرآن الكريم عن قولهم، أي قول الذين لا يؤمنون بالآخرة، فكأنه قال: ليس الأمر كما قالوا، بل الذين كفروا ولم يصدقوا بالآخرة: هم في العذاب الدائم في عالم الآخرة، وهم في الدنيا في الضلال البعيد عن الحق. فقوله تعالى: {فِي الْعَذابِ} يريد: عذاب الآخرة، لأنهم يصيرون إليه، وقوله: {فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} يريد، أنهم في غاية البعد عن الصواب والطريق الذي ضل منه، بسبب حيرة صاحبه.
واحتاجوا إلى التنبيه على قدرة اللّه الخلاقة بخلق السماوات والأرض، والتوبيخ على عدم التفكر والتدبر في ذلك الخلق، فقيل لهم: أفلم ينظروا أمامهم وخلفهم إلى السماء الناطقة بوجود القادر، والأرض الدالة على وجود الصانع؟! فلو نظروا إلى السماء والأرض، لعلموا أن خالقهما قادر على تعجيل العذاب لهم، فإن يرد الله يخسف بهم الأرض، كما خسفها بقارون، أو يسقط عليهم قطعا أو شهبا نارية من السماء تحرقهم، كما أسقطها على أصحاب الأيكة، فلو شاء اللّه لفعل ذلك بهم.
إن في ذلك، أي في إحاطة السماء بالمرء، ومماسّة الأرض له على كل حال، لعلامة قاطعة، ودلالة واضحة على وجود اللّه وقدرته لكل عبد فظن رجّاع إلى الله تعالى، لأن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وخلق الأرض في انخفاضها وسعتها، قادر على إعادة الأجساد كما كانت. والمنيب: هو الراجع إلى اللّه عز وجل.
لقد تكررت الآيات القرآنية المرشدة إلى الإيمان بالبعث وتقدير قدرة اللّه الفائقة، مثل قول اللّه تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 40/ 57]. وقوله عز وجل: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى} [يس: 36/ 81].
ما أكثر الأدلة المقنعة على وجود اللّه وقدرته، وإثباته إمكان البعث وجمع الناس ليوم القيامة، ولكن التعامي عن الحقائق سمة أهل الضلال وذوي الأهواء، الذين يؤثرون مصالحهم الذاتية القريبة على الباقي الدائم.
النعم الإلهية على داود وسليمان عليهما السلام:
أنعم اللّه تعالى على داود وسليمان عليهما السلام بنعم عظيمة عجيبة، ما تزال موضع إعجاب وإكبار، وتقدير وإعظام، ولم يتكرر بعضها إلى الآن لأحد من البشر، وقد كان ذلك الإنعام محل شكر وحمد من هذين النبيين الكريمين، لأنهما قدوة للناس.
وأهم هذه النعم: ثلاثة على كل من داود وسليمان، وهي تسخير الجبال لداود وتسبيحها معه، ويقابلها تسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير لأداء الخدمات لداود ونظيرها تسخير الجن لسليمان، وإلانة الحديد لداود في مقابل إلانة النحاس لسليمان، وهذا ما تبيّنه في الآيات الآتية:


{وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)} [سبأ: 34/ 10- 14].
منح اللّه تعالى داود عليه السلام فضلا منه وكرما نعما عظيمة ثلاثا من خلال الجمع له بين النبوة والملك العظيم، أولها: ترجيع الجبال مع ترانيمه وتسابيحه، فكان إذا سبّح سبّحت معه الجبال، ويسمع صداها. وتسخير الطيور له، يفهم لغتها، ويستخدمها في قضاء حاجاته، والانة الحديد له، فيصير في يديه كالعجين، من غير طرق ولا إذابة في النار، ليعمل بها الدروع الواسعة، وينسجها نسجا محكم الحلقات بحيث تكون حلقها منسجمة متوالية غير متفاوتة، فلا هي ضيقة ولا واسعة ولا ثقيلة، وهذا يحقق حاجة داود حيث كان عصره عصر حروب وقتال مع الملك المعاصر له.
وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي قدر تقديرا سديدا في نسج الدروع المحكمة، بحيث تجمع بين الخفة والمتانة، والتوسط والاعتدال، فلا تكون الحلقات صغيرة ولا كبيرة، وهذه نعم تستحق الشكر، ومردودها على آل داود، لذا قال اللّه لهم: { وَاعْمَلُوا صالِحاً} أي اعملوا يا آل داود عملا صالحا فيما أمدكم الله به من النعم، ثم توعدهم بقوله: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي لا يخفى علي أمركم، فإني بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي شيء منها. وهذا ترغيب في العمل الصالح، وتحذير من التقصير والإهمال.
وكذلك منح اللّه تعالى نعما ثلاثا أخرى لسليمان بن داود عليهما السلام وهي تسخير الريح، أي تذليلها له، بحيث يكون غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر. والغدو: السير وقت الغداة من أول النهار إلى منتصفه، والرواح: الجريان في منتصف النهار إلى الغروب.
ومن يعدل من الجن ويخرج عن طاعة سليمان نذقه بعض العذاب المؤلم. إما في النار بالحريق، وإما في الآخرة بالنار الدائمة، وهذه النعمة كتسخير الجبال لداود.
والنعمة الثانية: { وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي وأذبنا له عين النحاس، كما ألنا الحديد لداود، فكان يصنع منه ما يشاء، دون نار ولا مطرقة. وسمي عينا، لأنه سال من معدنه سيلان الماء من الينبوع.
والنعمة الثالثة: تسخير الجن لخدماته، فكانوا يعملون بين يديه ما يشاء من محاريب الصلاة، والتماثيل الكبيرة المباحة في شرعه، والجفان، أي القصاع الكبيرة كالحفر الكبيرة، وهي آنية الأكل، وقدور الطبخ الثابتات في أماكنها، فلا تتحرك عن مواضعها لعظمتها وثقلها.
وهذه النعمة ذات مرود نفعي أيضا على آل سليمان، لذا قال اللّه لهم: { اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} أي اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرا له على ما أمدكم به من النعم الدينية والدنيوية، وقليل هو الشاكر من عبادي، والشكر في الحقيقة: ليس مجرد الحمد باللسان، وإنما هو استعمال جميع الحواس والأعضاء المخلوقة للإنسان فيما خلقت له من المنافع المباحة. والشكور: صيغة مبالغة، وهو الّذي يشكر اللّه في جميع أحواله من الخير والضر.
وأخبر اللّه تعالى بمناسبة تسخير الجن لسليمان عن اختصاص اللّه بعلم الغيب، حتى إن اللّه تعالى لما أمات سليمان، ظل ميتا قائما، متكئا على عصاه، ولم تعلم الجن بموته، وبقوا يعملون أمامه خوفا منه، ولم يدلّهم على موته إلا سوسة العود، أي حيوان الأرض أو الأرضة التي نخرت عصاه من الداخل، فلما سقط بوقوع عصاه، ظهر للجن أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، ولو صح ما زعموا أنهم يعلمون الغيب، لعلموا بموته، وهو أمامهم، ولم يبقوا مدة من الزمان ماكثين في العمل الشاق الذي سخرهم فيه لإنجازه، ظانين أنه حي، والجن القائمون بالعمل المهين، أي المذل من الهوان، لم يكونوا مؤمنين، لأن المؤمن لا يعذب بعذاب مهين.
أهل سبأ وسيل العرم:
حذر القرآن الكريم من أمرين خطيرين: وهما الإشراك بالله، وجحود النعم الإلهية، وأبان حال الكافرين بأنعم اللّه كأهل مكة القرشيين وقت نزول الوحي الإلهي، وأنذرهم بالاعتبار والاتعاظ بقصة أهل سبأ، وأوعد كل من يجحد بنعم الله تعالى بعقاب مماثل. وأنزل اللّه تعالى آيات تبين قصة سبأ وتدمير بيوتهم بسيل العرم.
وسبب النزول: ما أخرج ابن أبي حاتم: أن فروة بن مسيك الغطفاني رضي اللّه عنه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآيات.
قال اللّه تعالى:

1 | 2 | 3